
أ. د. عبد الكريم حيزاوي، أستاذ متميز بمعهد الصحافة وعلوم الأخبار / رئيس مركز تطوير الاعلام ومدير تحرير مرصد الصحافة
يتعين في البداية أن نوضح أن “الحق في الاعلام” المنصوص عليه في الدستور التونسي هو من فئة الجيل الجديد لحقوق الانسان، فهو حق مستحدث، ولا غرابة إذن ألا نجد له تعريفا أو إقرارا واضحا في أدبيات القانون الدولي لحقوق الانسان.
ومن المفيد أن نستعرض ولو باختصار الجذور التاريخية لهذا الحق من خلال المسار الذي احتضنته منظمة الأمم المتحدة منذ إحداثها سنة 1945 عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية.
في البدء كان القرار رقم 59 الذي اعتمدته الجمعية العامة سنة 1946 والذي يعلن أن “حرية الإعلام هي حق أساسي للإنسان وحجر الزاوية لكافة الحريات التي تعمل من أجلها منظمة الأمم المتحدة”[1]
بعد ذلك حرصت المنظمة الأممية على إدراج الحق في حرية الاعلام ضمن الحقوق والحريات المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الانسان الذي اعتمدته الجمعية العامة بتاريخ 10 ديسمبر 1948. وكان ذلك في المادة 19 التي تضمن ” لكلِّ شخص حقُّ التمتُّع بحرِّية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحقُّ حرِّيته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقِّيها ونقلها إلى الآخرين، بأيَّة وسيلة ودونما اعتبار للحدود”.
وغداة الحرب العالمية، حالت الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي الليبرالي الشرقي الاشتراكي دون اعتماد اتفاقية دولية خاصة بحرية الاعلام، التي حظيت بعد ذلك بمادة وحيدة (المادة 19) أدرجت في العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي اعتمدته المنظمة الأممية بتاريخ 16 ديسمبر 1966 وأصبح ملزما للدول الأطراف بداية من 1976.
وتعتبر المادة 19 للعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية حجر الزاوية لمنظومة الحماية القانونية لحريات التعبير والاعلام التي تحدّد مبدؤها واستثناءاتها المشروعة كالآتي:
- 1. لكل فرد حق في اعتناق آراء دون مضايقة.
لكل فرد حق في حرية التعبير. ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى آخرين دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو بأية وسيلة أخرى يختارها.
3. تستتبع ممارسة الحقوق المنصوص عليها في الفقرة 2 من هذه المادة واجبات ومسئوليات خاصة. وعلى ذلك يجوز إخضاعها لبعض القيود ولكن شريطة أن تكون محددة بنص القانون وأن تكون ضرورية:
(أ) لاحترام حقوق الآخرين أو سمعتهم،
(ب) لحماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة.
ويتبيّن حسب هذه المادة أن حرية التعبير هي الحق الأصلي الذي يتعيّن حمايته في حين تبقى الحقوق والحريات الإعلامية روافد فرعية لهذا الحق الأصلي.
والمتابع للنقاش الدولي المتعلق بهذه المادة 19 يقف على عديد القراءات الداعية إلى إثرائه وحتى إلى تجاوزه.
واعتبر بعض الخبراء أن ما ورد في الفقرة الثانية من تفصيل لعناصر الحق في حرية التعبير هو التعريف الدولي للحق في الاعلام الذي يشمل ” حرية البحث عن المعلومات والأفكار وتلقيها ونشرها بأيَّة وسيلة ودونما اعتبار للحدود“. ويشاطر هذا الاستنتاج الفرنسي جون دارسي، الذي أصدر عام 1969 مقالا شهيرا كتب فيه: “سيأتي يوم يفرض على الإعلان العالمي لحقوق الانسان أن يأخذ في الاعتبار حقا أشمل من الحق في الاعلام المنصوص عليه في المادة 19، هو حق الفرد في الاتصال”.[2]
ولكن وبالرغم من جاذبيتها ومن حداثتها، لم تتمكن نظرية الحق في الاتصال من الحصول على اعتراف الجماعات العلمية النشطة داخل منظمة اليونسكو والتي اعتبرت أن هذا “الحق في الاتصال” غامض المعالم ومن شأنه أن يربك التقدم الحاصل على مستوى الحماية الدولية للحقوق والحريات الإعلامية داخل المنظومة الأممية.
وما من شك أن الكتاب الذي أشرفت على إصداره سنة 1984 منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) تحت عنوان “الحق في الاتصال”[3] هو الوثيقة الأكثر تفصيلا للنقاش العلمي الذي خاضه الخبراء الدوليون حول مفهوم الحق في الاتصال وماهيته ومدى وجاهة اعتماده كحق جديد من حقوق الانسان.
ومنذ ذلك التاريخ، نكاد لا نجد أثرا لمصطلح “الحق في الاتصال” في النصوص الدولية الحديثة المعنية بحقوق الانسان. نذكر هنا أساسا الميثاق الافريقي لحقوق الانسان والشعوب الذي تم اعتماده بتاريخ 28 جوان 1881 من قبل منظمة الوحدة الأفريقية (الاتحاد الافريقي حاليا) والذي اختار واضعوه مصطلح “الحق في الاعلام”.
والجدير بالذكر أن هذا الميثاق الافريقي هو أول معاهدة دولية ملزمة تنص صراحة على “الحق في الاعلام”، الذي ورد كالآتي في مادته التاسعة:
“1- لكل فرد الحق في الإعلام
2- لكل فرد الحق في التعبير عن آرائه وفي نشرها في حدود ما تسمح به القوانين واللوائح”.[4]
ومن الواضح أن استعمال مصطلح “الحق في الاعلام” من قبل محرري الميثاق الافريقي هو نتيجة التراكم المعرفي الذي تشكل منذ سبعينات القرن الماضي والذي أسّس للاعتراف بحق الفرد في الاعلام كحق متميّز عن الحق في حرية التعبير.
ورفعا للالتباس المتعلق بالمصطلحات المجاورة، على غرار “الحق في الاتصال”، يهمّنا التأكيد على أن الحق في الاعلام لا يقتصر على “الحق في النفاذ إلى المعلومات” الذي هو أحد مكوناته والذي أصبحت تنظمه عديد التشريعات الدولية والوطنية، ومنها القانون الأساسي التونسي عدد 22 لسنة 2016 المؤرخ في 24 مارس 2016 المتعلق بالحق في النفاذ إلى المعلومة.
كما نشير إلى خلط شائع آخر عند مستعملي اللغة الفرنسية بين “الحق في الاعلام” droit à l’information و”قانون الاعلام” droit de l’informationوذلك لتشابه المصطلحين بالفرنسية. ومعلوم أن قانون الاعلام يحيل على مجمل القوانين والتشريعات المنظمة لقطاع الاعلام والتي تسمى أيضا “قانون الصحافة” وفي المشرق العربي “قانون المطبوعات”.
وما من شك أنه منذ ثمانينات القرن الماضي وما شهده العالم بعدها من انفجار لوسائط الاتصال، هناك عديد الكتابات والندوات الفكرية الدولية التي نادت بضرورة الإقرار بحق الفرد في الاعلام وفي النفاذ إلى المعلومات وإلى شبكات الاتصال. ولا نجانب الصواب إن اعتبرنا أن مجال حقوق الانسان شهد منذ تلك الفترة تحولا باراديقميا (changement de paradigme) تمثّل في الانتقال من مرجعية الحق في حرية التعبير إلى نموذج حق الفرد في الإعلام وفي المعرفة وفي النفاذ إلى المعلومات.
ومن جانبها، لم تتأخر المنظمات المهنية للصحفيين عن مواكبة هذا المسار، وهو ما يؤكده ما ورد في ديباجة “الإعلان عن واجبات وحقوق الصحفيين” المعروف تحت تسمية “ميثاق مونيخ” الذي اعتمدته أهم المنظمات الدولية للصحفيين عام 1971 والذي اورد الحق في الاعلام في مطلعه:
- “الحق في الاعلام وفي حرية التعبير والنقد يمثل حرية أساسية لكل فرد.
- مسؤولية الصحفي إزاء الجمهور تفوق مسؤوليته تجاه المشغل أو السلطة العمومية …”
وتختصر صياغة هذا النص المرجعي لأخلاقيات الصحافة أسس المشروعية الجديدة للمهنة الصحفية التي تطمح إلى فك الارتباط بين الصحافة وأصحاب القرار السياسي والمالي وإلى الارتقاء بالصحافة كمهنة ذات رسالة نبيلة هي البحث عن الحقيقة وتقديمها إلى الجمهور.
كما ازدهر هذا الاهتمام المتزايد بالحق في الاعلام كمصطلح وكمفهوم في أدبيات حقوق الانسان كما في البحوث الأكاديمية. نذكر منها على سبيل المثال أطروحة الدكتوراه التي أعدتها فريدريك بروكال بجامعة ليون 2 الفرنسية سنة 2004 تحت عنوان “الحق في الاعلام بفرنسا. الصحافة والمواطن والقاضي”.[5]
وتتبنى الباحثة طرحا مدفوعا بالأدلة والأمثلة التاريخية والقانونية مفاده أن “الاعلام كان منذ البداية مادة قانونية من منظور منتجي وصناع الأخبار، أي الصحفيين وأساسا المؤسسات الإعلامية. وجاءت تبعا لذلك القوانين والتشريعات مهتمة بناشري الأخبار والمعلومات … لكن خلال ثمانينات القرن الماضي، تولى المجلس الدستوري الفرنسي الإفصاح عن تأويله لمفهوم التعددية الإعلامية التي يصبح ركيزتها حسب رأيه القارئ أو المستمع أو المشاهد، أي الجمهور المستهدف والمستفيد الرئيسي من الاعلام.” وتستخلص الباحثة من هذا التوجه الجديد لفقه القضاء الفرنسي أنه “يضع حدا للمنحى الليبرالي والاقتصادي للإعلام ويختار توجها تضامنيا موجه للمواطن”. مع الإشارة إلى أن الحق في الاعلام قد أقرّه فقه القضاء رغم أنه غير موجود بصفة صريحة في القانون الفرنسي الذي ينص فقط على حق الأفراد في الاطلاع على الوثائق الإدارية.
ومن المؤلفات التي أطنبت في تثمين الحق في الاعلام وطالبت بالارتقاء به كحق دستوري أساسي نستحضر على سبيل المثال كتاب الكندي جون كلود دفيريو (Claude- Jean Devirieux) الذي نشره عام 2009 تحت عنوان “بيان من أجل الحق في الاعلام”. ويطرح هذا الكتاب فرضية مفادها أن الاعلام هو حاجة بيولوجية للإنسان تنتفي بدونه شروط الحياة في المجتمع ولذلك يتعين على الدولة صيانته وضمانه.[6]
وفي نفس الفترة شهدت الساحة الإعلامية الفرنسية سنة 2008 “انتفاضة” بعض الصحفيين ضد المنظومة اليمينية التي أصبحت تشكل خطرا على حرية الصحافة مستغلة انتخاب المرشح اليميني نيكولا ساركوزي كرئيس للجمهورية عام 2007. وكانت منظمة “صحفيون بلا حدود” وموقع «ميديابارت” قد أشرفتا على هذا التحرك الذي أصدر نداء عنوانه “من اجل صحافة حرة ومستقلة”. وتصدرت هذا النداء الجملة الشهيرة التي تعلن أن “حرية الصحافة ليست امتيازا للصحفيين بل هي حق للمواطنين”.[7]
ويسلّط هذا النداء الضوء على علاقة الحق في الإعلام بحرية التعبير من خلال الدعائم التالية:
- عندما تصادر حرية تعبير شخص ما، لا ينتهك حق هذا الشخص فقط، وإنما تحرم بقية الأفراد في معرفة رأي هذا الشخص
- كذلك عندما تفرض رقابة على الصحفي، فهي لا تقتصر عليه فقط وإنما تنتهك حق الجمهور في معرفة ما كتبه أو أنتجه هذا الصحفي
- أصبحت الصحافة إذن خدمة عامة للجمهور بعد ان كانت بالأساس مجالا لممارسة حرية التعبير من قبل الناشرين والصحفيين.
وفي تونس، مثّل سقوط نظام بن علي في 14 جانفي 2011 الفرصة التاريخية لتفكيك أجهزة الرقابة الرسمية على الاعلام ولتحرير حريات التعبير والصحافة والنشر. وكما هو الحال في بقية تجارب الانتقال الديمقراطي عبر العالم، أعطت سلطة ما بعد الثورة الأولوية لإطلاق الحريات الإعلامية وتولت تفكيك أجهزة الرقابة على مؤسسات الاعلام وعلى شبكة الأنترنت. واستحسنت كل الأطراف السياسية والمنظمات الحقوقية داخل البلاد وخارجها منسوب الحرية الذي أصبح ينعم به الأفراد بقدر ما يتمتع به الصحفيون والفاعلون السياسيون وبقية نشطاء المجتمع المدني. وقد تصدرت تونس عربيا ولعدة سنوات الترتيب في مقياس حرية الصحافة السنوي الذي تشرف عليه منظمة “صحفيون بلا حدود”.
لكن وفي نفس الوقت، كانت السلطة الانتقالية واعية بضرورة إحداث هيكل يشرف على إصلاح الاعلام وعلى وضع إطار قانوني جديد ينظم حرية التعبير ويضبط النظام القانوني لمؤسسات الاعلام المطبوعة منها والسمعية البصرية والرقمية. وقد وفقت الهيئة الوطنية لإصلاح الاعلام والاتصال المحدثة في مارس 2011 في استنباط الأطر الجديدة لإعلام الحرية وفي الاشراف على تنظيم القطاع. وتمكّنت الهيئة في وقت قصير من الاشراف على إحداث القنوات الاذاعية والتلفزية الجديدة وعلى إعداد المرسوم 115 لسنة 2011 المنظم لحرية الصحافة والطباعة والنشر والمرسوم 116 لسنة 2011 المتعلق بحرية الاتصال السمعي البصري وبإحداث هيئة عليا مستقلة للاتصال السمعي البصري.
ولم يتعرض المرسوم عدد 115-2011 صراحة للحق في الاعلام، واقتصر على التنصيص على أن “الحق في حرّية التعبير مضمون …”
ومن جهته يضمن المرسوم 116-2011 “لكل مواطن الحق في النفاذ إلى المعلومة وفي الاتصال السمعي والبصري” لكن دون تفصيل مقتضيات هذا الحق.
وحتى القانون الأساسي المتعلق بالحق في النفاذ إلى المعلومة المؤرخ في 24 مارس 2016 ورد خاليا من الإشارة إلى الحق في الإعلام. وقد أوضحنا سلفا التباين بين هذين الحقين المتشابهين ظاهريا إلى حد أن عديد المهتمين بالحريات الإعلامية لا يرون فرقا بينهما. فالحق في النفاذ إلى المعلومة هو حق فرعي لحق عام هو الحق في الإعلام، الذي له عناصر ومكوّنات أخرى لا تقل أهمية عن الحق في النفاذ إلى المعلومة كما سيتم بيانها لاحقا.
وقد توّجت المرحلة الأولى من الانتقال الديمقراطي بإحداث الهيئة العليا مستقلة للاتصال السمعي البصري (الهايكا) في 3 ماي 2013 ثم بدستور 27 جانفي 2014 الذي تم إعداده في إطار المجلس الوطني التأسيسي بمشاركة حقوقيين ونشطاء من المجتمع المدني. لذلك جاءت صياغة هذا الدستور مستلهمة مبادئها من أحدث القواعد الدولية في مجال حقوق الانسان ومنها الحق في الاعلام وفي النفاذ إلى المعلومات الذي ورد في المادة 32 كالآتي:
“تضمن الدولة الحق في الإعلام والحق في النفاذ إلى المعلومة.
تسعى الدولة إلى ضمان الحق في النفاذ إلى شبكات الاتصال.”
ونقلت هذه المادة دون تغيير في المادة 38 من دستور 25 جويلية 2022.
والمتأمل في تناسق مواد الدستور في مجال حريات التعبير والإعلام لا بد أن يلاحظ تكامل المادة 32 مع سابقتها المادة 31 التي تنص على أن “حرية الرأي والفكر والتعبير والنشر مضمونة، ولا يجوز ممارسة رقابة مسبقة على هذه الحريات” (المادة 37 من دستور 2022).
وبفضل هذه الصياغة المبتكرة، سعى المشرع الدستوري التونسي إلى تحقيق توازن كان مفقودا بين ضمان حريات التعبير والاعلام من جهة وضمان حق المواطن في الاعلام وفي التواصل من جهة ثانية. وكانت المرحلة الانتقالية الأولى التي سبقت وضع دستور 2014 قد شهدت انفجارا غير مسبوق للقنوات الاذاعية والتلفزية ولمنصات شبكات التواصل الاجتماعي دون فائدة تذكر للمواطن بعدما انحرفت جل هذه الوسائط في عديد الأحيان لخدمة مصالح خاصة سياسية أو تجارية بعيدة كل البعد عن مقتضيات رسالتها الإعلامية وعن القواعد المهنية والأخلاقية للعمل الصحفي.
ومن جهتها أعلنت أجهزة الاعلام العمومي غداة 14 جانفي 2011 تطورها من أدوات إعلام حكومي رسمي إلى مؤسسات خدمة عامة (médias de service public) تسعى إلى تلبية حاجيات الجمهور وانتظاراته.
لكن تأخر إحداث الهيئة التعديلية للاتصال السمعي البصري المنصوص عليها في المرسوم عدد 116 لسنة 2011 حوّل المشهد السمعي البصري من الحرية المنشودة إلى حالة غوغاء وفوضى، مع انتصاب قنوات عشوائية وتحويل وجهة عديد القنوات الخاصة لتصبح منصات إشهارية وابواق دعاية حزبية أو دعوة دينية موازية. وبعد أكثر من عشر سنوات على صدور تقرير اليونسكو لسنة 2012 حول تطوير الإعلام في تونس، تبيّن أن أغلب الأهداف والتوصيات المنصوص عليها في هذه الوثيقة المرجعية لم تتحقق، وذلك لأسباب متعددة نذكر منها:
- التردّي المستمر لأوضاع وسائل الإعلام وخاصة العمومية منها والمصادرة
- العجز الجماعي عن تحيين التشريعات المنظمة للقطاع
- استقالة الدولة من مسؤوليتها في رعاية القطاع وفي دعم الإعلام باعتباره حقا دستوريا وخدمة عامة وفي وضع أسس سياسة عمومية إعلامية تتولى إعدادها بطريقة تشاركية
- تراجع الاتصال الحكومي مع امتناع المسؤولين عن تنظيم لقاءات دورية مع الصحفيين بما ينتفي مع حق المواطن في الاطلاع على أنشطة الدولة ومع حق الاعلام في مساءلة أرباب السلطة
- تغييب العناية بجمهور الإعلام في ظل عدم تفعيل التربية الإعلامية وتعثر مسارات التعديل الذاتي
- تداخل الأدوار في عملية التفكير الاستراتيجي حول آفاق تطوير الإعلام، الذي استحوذت عليه بعض الأطراف دون مشاركة الدولة ودون تعبئة الإطار الأكاديمي المتخصص
- استمرار مؤسسات التعاون الدولي في دعم أنشطة وبرامج “إصلاح الإعلام” في غياب سياسة إعلامية عمومية تضعها الدولة بمشاركة الأطراف المهنية والأكاديمية والمجتمع المدني
- انتكاسة الممارسات الإعلامية بعودة الرقابة والرقابة الذاتية بالتوازي مع انتصاب الحكم الفردي بعد 25 جويلية 2021 ومع انتصاب عديد الوجوه الإعلامية التي كانت أبواق دعاية لنظام بن علي في مواقع القرار وفي المنابر الصحفية، مستقوية بصعود قوى “الثورة المضادة” في استطلاعات الرأي ومستغلة ضعف ذاكرة المشرفين على القطاع.
وتثبت تجربة الانتقال الديمقراطي التي عاشتها تونس في فترة ما بعد الثورة بوضوح أن حرية الاعلام غير كافية ولا تؤدي بالضرورة إلى تلبية حق الافراد في الاطلاع على الأحداث والمعلومات الآراء المتصلة بمجالات اهتمامهم محليا ووطنيا ودوليا. وتتقاطع التجربة التونسية مع مثيلاتها في البلدان التي عاشت انتقالا من الانغلاق إلى الحرية، والتي خبرت مشاكل الحرية بعدما تخلصت من ويلات الرقابة.
لذلك يتعين الاستئناس بالمعايير الدولية وبالتجارب المقارنة والوقوف على الممارسات الفضلى في مجال تنظيم الحريات الاعلامية بما يضمن حق الجمهور ويحول دون الزيغ بمؤسسات الاعلام العمومية والخاصة عن وظائفها الاعلامية الأصلية.
والمتأمل في حصيلة العشرية التي تلت ثورة 2011 سيقف حتما على اختناق “نموذج الفوضى” الذي نتج عن تخلي الدولة على قطاع الاعلام والذي استغلته القنوات الخاصة تحت راية “حرية الاعلام”. وافتكت هذه القنوات جزءا من جمهور القنوات العمومية التي فقدت بوصلتها بعد تخلي الدولة عن رقابتها وعن توفير الدعم الضروري لإصلاحها. وذلك بالرغم من الدور الذي سعت الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري إلى تأمينه طبقا لمهمتها في تعديل المشهد السمعي البصري منذ إحداثها في 2013 إلى حين تعطيلها عمليا بداية من 2023 عند امتناع رئاسة الجمهورية عن تسمية رئيس لها بعد إحالة رئيسها المباشر على التقاعد.
ونعتقد تبعا لذلك أن تفعيل حق المواطن في الاعلام هو المدخل الأفضل لتطوير الاعلام في تونس بناء على معايير الدراسة المرجعية حول تطوير الاعلام في تونس[8] التي أشرفت على إنجازها منظمة اليونسكو سنة 2012 بناء على مؤشرات تنمية الاعلام التي اعتمدتها في 2008.[9]
ولا جدال ونحن في سنة 2023 أن مصطلح “إصلاح الإعلام” قد أفرغ من معناه منذ تخلي حكومة الترويكا سنة 2012 والحكومات التي تلتها عن مشروع الإصلاح الذي وضعت أسسه الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام والاتصال بعد ثورة 14 جانفي 2011 والذي أكدته منظمة اليونسكو في تقريرها لسنة 2012 المذكور سلفا.
ولا شك أن الدستور التونسي يوفر أرضية قانونية فضلى لاستكمال البناء التشريعي والمؤسساتي لتفعيل الحق في الاعلام. ذلك أن حقوق الانسان المنصوص عليها في الدستور تحتاج إلى نصوص تطبيقية لتنزيلها حيز الواقع، وهذا واجب محمول على الدولة (أساسا على الحكومة وعلى البرلمان).
وتجدر الإشارة إلى أن المادة 38 من الدستورلا تقتصر على مجرد الإعلان عن الحق في الاعلام بل تحمّل الدولة واجب السهر على ضمانه. والفرق واضح بين صياغة الجملة الأولى من هذه المادة 38 ( تضمن الدولة) والتي تحمّل الدولة “فرض نتيجة” و صياغة الفقرة الثانية ( تسعى الدولة) التي تحمّل الدولة مجرّد “فرض عناية”.
ومن أوكد الواجبات الموضوعة على كاهل الدولة بمقتضى هذا الحق الدستوري تطوير الاتصال الحكومي وإرساء مكاتب العلاقات مع الصحافة وإحداث المصالح المعنية بتوفير الحق في النفاذ إلى المعلومات والوثائق الإدارية برئاستي الجمهورية والحكومة ولدى كل الوزارات والمنشآت العمومية.
كما على الدولة أيضا توفير خدمات شبكات الاتصال (هاتف، إرسال إذاعي، أنترنت …) لكل المواطنين مع الحرص على تغطية عادلة بين الجهات وعلى تقليص الفجوة الرقمية بين المناطق الساحلية والجهات الداخلية للبلاد.
وما هو محمول على المهنة الصحفية من صحفيين وأصحاب المؤسسات الإعلامية لا يقل أهمية عن واجبات الدولة بخصوص توفير حق المواطن في الاعلام، ويمكن استحضار أهمها كما يلي:
- لا تكون حرية الصحافة مشروعة إلا إذا كانت تسعى إلى تحقيق المصلحة العامة وإذا سخرت نفسها لخدمة الجمهور.
- تحرص المهنة الصحفية على استقلاليتها وعلى جودة المضامين الإعلامية أساسا باحترام الضوابط المهنية والالتزام بالقواعد الأخلاقية المنصوص عليها في مواثيق الشرف الوطنية والدولية
- يعمل الصحفيون على الكشف عن الحقائق في قضايا الرأي العام باستخدام أدوات الصحافة الاستقصائية واستغلال الحق الدستوري في النفاذ إلى المعلومات والوثائق الإدارية المتاحة
- تلتزم المهنة الصحفية بواجبات التعديل الذاتي وتتفاعل إيجابيا مع مقتضيات المساءلة الإعلامية التي يمارسها الجمهور.
ومن منطلق علوية الدستور والواجبات التي تترتب عنه، يتعيّن على الدولة اعتماد سياسة إعلامية عمومية محورها الدعم العمومي للإعلام بما يلبّي حق الجمهور في المعرفة وفي الاعلام والنفاذ إلى المعلومات وإلى شبكات الاتصال.
ويمكن تلخيص العناصر المكوّنة لهذه السياسة الإعلامية العمومية في شكل التوصيات التالية:
- إحداث هيكل حكومي مكلف بالإشراف على تنفيذ السياسة الإعلامية للدولة وعلى توفير الدعم العمومي لقطاع الاعلام بما يضمن تطويره واستقلاليته
- سن تشريعات جديدة بطريقة تشاركية ومراجعة النصوص التي تتعارض مع حق المواطن في إعلام مستقل وتعددي وذي جودة
- تكريس شفافية الهياكل العمومية بتفعيل النشر التلقائي للمعلومات والوثائق المنصوص عليها بقانون الحق في النفاذ إلى المعلومة لسنة 2016 وبالاستجابة لطلبات النفاذ المشروعة وخاصة تلك التي يقدمها الصحفيون
- تعميم مصالح الاتصال في كل الهياكل والمؤسسات العمومية، بدءا برئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة
- تطوير هياكل قطاع الاعلام العمومية على غرار مؤسسات الاعلام السمعي البصري العمومية والهيئات التعديلية المستقلة المعنية بالإعلام وبالاتصال السمعي البصري وهيئة النفاذ إلى المعلومة
- تأهيل منظومة التكوين الجامعي للصحفيين والاتصاليين وتعميم التربية الإعلامية بالمعاهد الإعدادية والثانوية
- رعاية مؤسسات قطاع الإعلام التي تشرف عليها الدولة وهي وكالة تونس افريقيا للأنباء ومركز التوثيق الوطني والمركز الافريقي لتدريب الصحفيين والاتصاليين
- العناية بالمؤسسات الإعلامية التي صادرتها الدولة غداة ثورة 2011 على غرار صحف “دار الصباح” وإذاعة “شمس اف ام”
- صيانة الحقوق المادية والأدبية للمهنة الصحفية وحماية الصحفيين أثناء قيامهم بمهامهم في البحث عن المعلومات وفي تغطية الأحداث ونشر أعمالهم
- توفير إطار قانوني وجبائي داعم للمؤسسة الإعلامية ومساعدتها على تامين انتقالها الرقمي بنجاح
المراجع / Bibliographie :
- منظمة المادة 19: النظام المتعلّق بالمساعدات العمومية للإعلام التّونسي في سياق الانتقال الدّيمقراطي، تونس، جويلية 2018، 56 صفحة
- Brocal von Plauen, Frédérique : Le droit à l’information en France
La presse, le citoyen et le juge, thèse de doctorat, Université Lumière-Lyon 2, 2004
- Devirieux Claude Jean : Manifeste pour le droit à l’Information, de la manipulation à la législation, Presse de l’Université du Québec, 2009
- Hizaoui Abdelkrim : Tunisia : The urgent need for media accountability, in The Global Handbook of Media Accountability, pp 256-265 ; Routledge, NY, 2022
- Hizaoui Abdelkrim : Media accoutability in Tunisia, in Fengler Susan et al. Media accoutability in the MENA Region ; Erich Brost Institute for International Journalism, TU Dortmund University, Dortmund, 2021, pp 144-161.
- Maler Henri : Le droit à l’information, ses conditions et ses conséquences, Savoir/Agir 2014/4 (N°30)
- UNESCO : Le droit à la communication, in Etudes et Documents d’Information, Avril 1984, 65 pages, Paris
[1] قرار رقم 59، 1946
[2] « Le jour viendra où (la DUDH) devra prendre en compte un droit plus large que le droit de l’homme à l’information, établi pour la première fois il y a 21 ans dans l’Article 19. Il s’agit du droit de l’homme à communiquer, et c’est l’angle sous lequel il faudra considérer le futur développement des communications si on veut vraiment le comprendre », Jean d’Arcy, (1969)
[3] Fisher Desmond, Le Droit à la communication. Rapport sur l’état de la question, collection Etudes et documents d’information N°94, Unesco, Paris, 61p, 1984
[4] مع الإشارة إلى أن مصطلح “الحق في الاعلام” هو ترجمة حرفية للفصل 9 من النسخة الفرنسية للميثاق droit à l’information على خلاف الترجمة العربية للنسخة الإنجليزية من الميثاق والتي اعتمدت “حق الفرد في الحصول على المعلومات”.
[5] BROCAL Frédérique, Le droit à l’information en France, La presse, le citoyen et le juge ; thèse de doctorat soutenue à l’Université Lyon 2, 2004.
[6] Devirieux Claude Jean, Manifeste pour le droit à l’information, de la manipulation à la législation, PUQ, 2009.
[7] Appel de la Colline, RSF et Médiapart, 24/11/2008, https://blogs.mediapart.fr/edition/etats-generaux-de-la-presse-le/article/261108/5000-signataires-comme-eux-signez-l-appel
[8] دراسة حول تطور وسائل الاعلام والاتصال بتونس، اليونسكو، تونس 2012
[9] https://unesdoc.unesco.org/ark:/48223/pf0000163102_ara