
أ. د. عبد الكريم حيزاوي، أستاذ متميز بمعهد الصحافة وعلوم الأخبار / رئيس مركز تطوير الاعلام ومدير تحرير مرصد الصحافة
تقدّم مجموعة من نواب مجلس الشعب يوم 27 فيفري 2025 بمقترح قانون أساسي يتعلق بحرية الاتصال السمعي البصري وبتنظيم هيئة الاتصال السمعي البصري وضبط اختصاصاتها. وبعد الاطلاع على النص المقترح، نقدم في هذه الورقة بعض الأفكار والملاحظات من منطلق أكاديمي وعلى ضوء اهتمامي قبل سنة 2011 وبعدها بمسألة “تعديل وسائل الاعلام” التي كانت المادة الرئيسية التي درّستها بماجستير البحث بمعهد الصحافة وعلوم الأخبار منذ انطلاقه في 2004.
1- لمحة عن المنطلقات:
بعد سقوط نظام بن علي في 14 جانفي 2011، عاشت تونس فترة غير مسبوقة اعتبرها الكثيرون عرسا للحرية ومطلعا للديمقراطية بينما رأى آخرون أن ما سمي حرية هو في الواقع انعكاسا لانهيار الدولة ولانفلات الفضاء العام.
ولا نحتاج للتذكير مطوّلا أن النصوص القانونية التي اتخذت في شكل مراسيم حول الاعلام خلال الأشهر الأولى بعد الثورة وخاصة المرسومين 115 و116 المنظّمين لحريات التعبير والصحافة والاتصال السمعي البصري تم إعدادها من قبل حقوقيين ومنظمات مهنية وخبراء صلب الهيئة الوطنية المستقلة لإصلاح الاعلام والاتصال ودون مشاركة أي طرف حكومي. وهو ما يفسّر الروح التحررية لهذه النصوص التي تعتبر من أهم مكاسب الثورة رغم عديد المحاولات الرامية لتنقيحها أو لإلغائها. ومعلوم أن أرباب السلطة السياسية المنتخبة سرعان ما عادوا للإمساك بزمام الأمور والتفوا بطرق شتى على النصوص التي وضعت قبل اعتلائهم سدة الحكم بداية من جانفي 2012.
ولا شك ان التجربة الثرية والفريدة من نوعها منذ الاستقلال التي عاشتها تونس خلال عشرية الانتقال الديمقراطي 2011-2021 تستحق التقييم والتحليل والمساءلة بعيدا عن الشعارات الشعبوية التي شرّعت لإلغائها بداية من 25 جويلية 2021.
جدير بالتذكير أن الأطراف السياسية الحاكمة بعد 2011 سعت إلى وضع أسس منظومة إعلامية طموحة قوامها الحرية ومرجعيتها المعايير الدولية المعمول بها في الأنظمة الديمقراطية.
ورغم العراقيل، ترجمت هذه المنظومة في نصوص قانونية تمثلت تباعا في المرسومين 115 و116 ثم في دستور 2014 ثم في القانون الأساسي للحق في النفاذ إلى المعلومات لسنة 2016.
وما نشهده الآن منذ اعتماد دستور 2022 هو تفكيك لمنظومة 2011 دون إرساء منظومة بديلة، على الأقل بالنسبة لقطاع الاعلام، إذ بقي خارج الاهتمام الرئاسي الذي تركّز على السلط التنفيذية والتشريعية والقضائية.
عند انتخابه في أكتوبر 2019، لم يمارس رئيس الجمهورية حقه بل واجبه القانوني في تسمية رئيس جديد لهيئة الاتصال السمعي البصري المنتهية ولايته منذ ماي 2019.
منذ ذلك التاريخ، اتسمت “السياسة الإعلامية” إن صح التعبير باللامبالاة والاقتصار على تفكيك منظومة 2011-2016 بقرارات إدارية مخاتلة نذكر منها: تسمية المشرفين على مؤسستي الإذاعة والتلفزة دون طلب الرأي المطابق للهايكا، إحالة رئيس الهايكا على التقاعد دون تعويضه، إيقاف رواتب بقية أعضاء مجلس الهايكا، تعيين الكاتب العام في خطة أخرى وكذلك الشأن بالنسبة لرئيس هيئة النفاذ إلى المعلومة بالنيابة … مع انتزاع مهام الهايكا في مجال مراقبة التغطية الإعلامية للانتخابات.
2- قراءة سريعة في دروس تجربة المرسوم 116:
- العلاقة مع الدولة: عدم مشاركة الحكومة في صناعة القرار الإعلامي في خضم الزخم الثوري بعد جانفي 2011 كانت طبيعية ومفهومة في تلك الفترة التي لا وجود فيها لبرلمان، لكن نتائجها كانت وخيمة على قطاع الاعلام. فقد خرج هذا القطاع من دائرة اهتمام مختلف الحكومات بعد الثورة بمباركة غير مسؤولة من أطراف نصّبت نفسها وصية على القطاع لكن دون قدرة على تطويره أو إصلاحه، في غياب سياسة عمومية إعلامية تسهم الدولة في وضعها وتشرف الحكومة على تفعيلها. وذلك رغم تحقيق مكسب دستوري تاريخي بإدراج مادة بدستور 2014 تنص على أن “الدولة تضمن حق المواطن في الاعلام …” وعلى الأطراف المعنية التوفق إلى صيغ مبتكرة لإعادة بناء دعم الدولة للإعلام على هذا الأساس الدستوري.
- العناية كانت مفرطة في المرسوم 116 بالهيكل التعديلي (الهايكا) على حساب القنوات التي تنتج المضامين وتبثها، أي أننا ركزنا على الحكم وصرفنا النظر عن اللاعبين. والدليل على ذلك أن الفصول 3،4،5 فقط تهم حرية الاتصال السمعي البصري، والبقية (من الفصل 6 إلى الفصل 46) مخصصة للهيكل التعديلي.
- طريقة تعيين أعضاء مجلس الهيئة التعديلية التسعة من قبل ستة أطراف مختلفة يستوجب المراجعة واعتماد طريقة تراعي مزيد من التوازن بين مقتضيات الاستقلالية والكفاءة والتمثيلية.
- بؤس المشهد السمعي البصري الوطني كما يبرزه جدول القنوات التلفزية العمومية في البلدان العربية سنة 2023: لتونس قناتان عموميتان فقط، مثلها مثل الصومال وفي مؤخرة الترتيب مع جيبوتي وجزر القمر، هذا وتونس بلد المقر لاتحاد إذاعات الدول العربية! [1]
- القنوات الخاصة بكل أصنافها الإذاعية والتلفزية تكابد من أجل البقاء باعتماد التسويق على حساب إنتاج المضامين الإعلامية وبثها.
- مسألة دسترة الهيئة التعديلية للسمعي البصري: الأهم في نظري إدراج بالدستور استقلالية الاعلام السمعي البصري العمومي وإقراره كإعلام خدمة عامة، مع الإشارة للهيئة التعديلية للاتصال السمعي البصري دون الدخول في تفاصيل تركيبة مجلسها وطريقة تسمية أعضائها التي تحدّد لاحقا بالقانون وبالنصوص الترتيبية.
3- المشاريع السابقة:
قبل المبادرة التشريعية الأخيرة، سجلت مسألة مراجعة المرسوم 116 المنظم لحرية الاتصال السمعي البصري عديد المحاولات لكن دون جدوى:
- مقترح قانون يتعلق بحرية الاتصال السمعي البصري، تقدم به 34 نائبا/بة بتاريخ 3 جانفي 2018
- نفس النص أودعته الحكومة كمشروع قانون علّقت عليه النقابة الوطنية للصحفيين خلال جلسة استماع أمام لجنة الحقوق والحريات والعلاقات الخارجية بمجلس نواب الشعب يوم 25 جانفي 2018.
- 7 ماي 2020، مكتب مجلس النواب يقرر إحالة مقترح قانون أساسي متعلق بتنقيح المرسوم عدد 116 لسنة 2011 المتعلق بحرية الاتصال السمعي البصري وبإحداث هيئة عليا مستقلة للاتصال السمعي البصري، وهي مبادرة تشريعية تقدم بها النائب سيف الدين مخلوف، عن كتلة ائتلاف الكرامة بمجلس نواب الشعب.
- 19 أكتوبر 2020: موافقة مكتب المجلس على سحب حكومة المشيشي لمشروع القانون الأساسي المتعلق بحرية الاتصال السمعي البصري الذي كانت قد قدمته الحكومة السابقة في جويلية 2020.
4- ملاحظات مختصرة بخصوص مقترح القانون الذي تقدم به السادة النواب بتاريخ 27 فيفري الماضي:
ملاحظة عامة: المقترح يعتمد مشروعا تم إعداده في 2017 ثم تبنته مجموعة من النواب بعد قرار الحكومة سحبه كما أسلفنا. ورغم بعض اللمسات لتحيينه، فإن الوضع تغير جذريا بعد 2021 وبعد إلغاء هيئة الاتصال السمعي البصري من دستور 2022. والنواب أصحاب المبادرة التشريعية على وعي تام باختلاف بيئة منشإ النص المقترح مع الوضع الحالي، لذلك أكد من حضر منهم ندوة النقابة الوطنية للصحفيين المنعقدة يوم 27 ماي الماضي على قابلية المقترح لمراجعة شاملة.[2]
بخصوص الإضافات مقارنة بالمرسوم 116:
- إدراج باب ثالث عنوانه “الاعلام السمعي البصري” يعيد للنص التشريعي دوره في الحد من حرية الملكية (تحديد ملكية القنوات كان مدرجا بكراسات الشروط التي وضعتها الهايكا)
- التنصيص على مبادئ حوكمة القطاع السمعي البصري العمومي وتركيبة مجلس الإدارة بالنسبة للقنوات العمومية وتسمية الرئيس المدير العام ومدته النيابية والاشارة إلى عقد الأهداف
- إضافة أحكام أكثر تفصيلا خاصة بالقنوات التجارية وبالعقوبات.
خاتمة وتوصيات ذات صلة بالمشروع المقترح:
- نظام تسمية أعضاء مجلس الهيئة التعديلية: الإعراض عن الانتخاب في البرلمان بأغلبية الثلثين، لأن هذه الطريقة غير واقعية وتسببت في تعطيل انتخاب أعضاء مجالس الهيئات المستقلة المنصوص عليها في دستور 2014، على غرار المجلس الدستوري ومجلس هيئة مكافحة الفساد …
ونورد فيما يلي بعض النماذج من التجارب المقارنة:
- فرنسا: يتكون مجلس الهيئة التعديلية [3] من تسعة أعضاء
- رئيس الهيئة يسميه رئيس الجمهورية
- 3 أعضاء يسميهم رئيس مجلس النواب
- 3 أعضاء يسميهم رئيس مجلس الشيوخ
- عضوان تسميهما السلطة القضائية (نائب رئيس مجلس الدولة والرئيس الأول لمحكمة التعقيب)
تشارك خمس جهات في تسمية أعضاء الهيئة، بما يضمن استقلاليتها.
- المغرب: يتشكل مجلس هيئة الاتصال السمعي البصري من تسعة أعضاء.
– 5 أعضاء يسميهم الملك،
– عضوان يسميهما رئيس الحكومة،
– عضو يسميه رئيس مجلس النواب
– عضو يسميه رئيس مجلس المستشارين
- الجزائر: يتكون مجلس “السلطة الوطنية المستقلة لضبط السمعي البصري” من تسعة أعضاء يعينهم رئيس الجمهورية باقتراح من الوزير الأول.
والملاحظ من خلال استعراض هذه النماذج أنها مختلفة عن النموذج التونسي ويتعين علينا استحداث صيغة واقعية لتعيين أعضاء مجلس الهيئة التعديلية تكون نابعة من تجربتنا المراكمة منذ إحداث الهايكا في 2013.
- تسمية رئيس الهيئة: يفضل أن يتم بأمر رئاسي لتفادي التجاذبات داخل مجلس الهيئة وتغيير الرئيس عند فقدانه الأغلبية (كما حصل سابقا في مجلس هيئة الانتخابات)
- تسمية ستة أعضاء من قبل البرلمان (مثلا باقتراح من لجنة الحقوق والحريات) مع تحديد الشروط المطلوبة
- تسمية قاضيين أحدهما إداري والثاني عدلي من قبل السلطة القضائية
- الحرص على عدم وجود أغلبية من المهنيين في مجلس الهيئة لتفادي تضارب المصالح والخلط مع هياكل التعديل الذاتي
- إضافة التربية الإعلامية لمهام الهيئة التعديلية
- تحديد إجراءات الحصول على الرأي المطابق من الهيئة التعديلية عند تسمية الرؤساء المديرين العامين لمؤسستي الإذاعة والتلفزة العموميتين.
ختاما لا بد من تثمين المبادرة التشريعية التي تقدم بها مجموعة من النواب الحريصين على إنقاذ المشهد السمعي البصري من الأزمة الغير مسبوقة التي تعيشها كل مكوناته الإذاعية والتلفزية العمومية والتجارية والجمعياتية.
[1] المصدر: البث الفضائي العربي، التقرير السنوي لسنة 2023، اتحاد إذاعات الدول العربية، تونس.
[2] مداخلة النائب ثابت العابد
[3] L’ARCOM