
د. غسان نمر/ فلسطين، استاذ مساعد في الاعلام والعلاقات العامة دكتوراه في تخصص العلوم الانسانية / علوم التراث
لأننا في عصر تتشابك فيه خيوط عالم الاعلام بالحقائق التي يشهدها الميدان، أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي ساحة معركة رئيسية يسعى لها كل فريق ويعتبرها أحد أهم أدواته خلال هذه المعركة، وهي كذلك وبشكل كبيرفي الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي خاصة في العدوان الكبير الحاصل من السابع من اكتوبر 2023 حتى تاريخ كتابة هذا المقال.
في هذه الحرب لم تعد منصات الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي مجرد أدوات للتواصل أو الاخبار، بل تحولت إلى فضاءات تحاول تسليط الضوء على سردية تسعى لنشر الروايات، توثيق الانتهاكات، وحشد الدعم لمصلحة اصحاب الأرض والحق الذين تابوا ضحايا تطرات العنف في منظقة عاشت الحصار مدة سبعة عشر عاماً.
لذلك ومع ملاحظة العالم لوحشية الحرب وحجم الدمار فيها ازداد التضامن مع الشعب الفلسطيني خصوصا في غزة ، وهو ما أعطى دليلاً واضحا على نجاح الفلسطيني في نقل روايته للعالم وفرض سرديته على منصات التواصل.
من هنا ومع تزايد تأثير المحتوى الفلسطيني في كشف الحقائق وتحدي السردية التي سعت اسرائيل إلى نشرها باعتبارها حقيقة ، تصاعدت الجهود الممنهجة لمحاربة المحتوى الفلسطيني وتقييده، وصولاً إلى ممارسة العنف الرقمي ضد الأصوات الصحفية الفلسطينية.
لقد شكلت حملة محاربة المحتوى الفلسطيني على مواقع التواصل الاجتماعي جزءًا لا يتجزأ من استراتيجية واسعة ممنهجة تهدف إلى حجب الرواية الفلسطينية وتقويض التضامن الدولي مع القضية الفلسطينية. غالبًا ما جاءت هذه الحملات تحت ذريعة ” محتوى عنيف” أو وضع تحت سقف ” الآرهاب” أو برر حجبه تحت مظلة “مكافحة التحريض” أو “معاداة السامية”، وهي اتهامات تُستخدم بشكل واسع لتبرير حذف المحتوى، تقييد الوصول، وتعليق الحسابات.
تُمارس هذه الضغوط على المنصات الرقمية الكبرى مثل فيسبوك، إكس (تويتر سابقًا)، وإنستغرام، والتي غالبًا ما تستجيب للطلبات الواردة من الجهات الرسمية الاسرائيلية أوالذباب الالكتروني الذي تقوم أدواتها الامنية بتشغيله أو المنظمات الضاغطة التي تعمل ضمن استراتيجيتها.
تشير العديد من التقارير إلى ارتفاع كبير في عدد حالات حذف المحتوى الفلسطيني أو تقييده. فبعد أحداث السابع من أكتوبر 2023، وثقت منظمات حقوقية ارتفاعًا ملحوظًا في هذه الممارسات. على سبيل المثال، أفاد تقرير صادر عن مركز “صدى سوشال” في نوفمبر 2023 بأن أكثر من 1000 انتهاك ضد المحتوى الرقمي الفلسطيني قد تم رصدها على منصات التواصل الاجتماعي، منها حذف منشورات وإغلاق حسابات وتقييد وصول المحتوى. هذه الأرقام لا تشمل جميع الحالات، نظرًا لأن العديد من الصحفيين والنشطاء لا يبلغون عن الانتهاكات خوفًا من مزيد من الاستهداف.
يتجاوز الأمر مجرد حذف المنشورات ليصل إلى ممارسة العنف الرقمي المباشر ضد الصحفيين الفلسطينيين. يتعرض هؤلاء الصحفيون، الذين غالبًا ما يكونون في الخطوط الأمامية لتغطية الأحداث، لحملات ممنهجة من الاعتقال غير القانوني وتعرضهم للحبس الاداري لأشهر عديدة دون توجيه تهمة (وهو ما وثقته منظمة العفو الدولية) وقد وصل عدد الصحفيين المعتقلين الى 45 صحفية وصحفي أوأن يتعرضوا للتشهير، التهديد، التنمر، والاختراق. وأن تُستخدم صورهم الشخصية ومعلوماتهم الخاصة لنشر الشائعات والاتهامات الباطلة، بهدف تشويه سمعتهم وتقويض مصداقيتهم. كما شملت هذه الحملات رسائل الكراهية، والتهديد بالقتل أو الإيذاء الجسدي، واستهداف عائلاتهم. على سبيل المثال، وثقت دراسات متعددة قيام حسابات وهمية ومنسقة بنشر تعليقات مسيئة وتشويهية تستهدف الصحفيين الفلسطينيين فور نشرهم لأي محتوى يفضح الانتهاكات.
ولا يمكن أن ننسى أن حرب الابادة التي تقوم بها اسرائيل على غزة أودت بحياة اكثر من 210 صحفي حتى تاريخ كتابة هذا المقال، وهو ما وثقته المنظمات الحقوقية ولجنة حماية الصحفيين (CPJ).
إنّ العنف الرقمي يُعد أداة قوية لخنق الأصوات الحرة، فهو يخلق بيئة من الخوف والترهيب، مما يدفع الصحفيين إلى فرض رقابة ذاتية على محتواهم لتجنب الاستهداف. هذا يحد من قدرة العالم على رؤية حقيقة ما يحدث على الأرض، ويقوض مبدأ حرية التعبير وحق الحصول على المعلومات ونشر الحقائق للعالم بمختلف اللغات.
رغم ذلك في مواجهة هذه الحرب الرقمية، يواصل الصحفيون والنشطاء الفلسطينيون جهودهم لتوثيق الحقيقة ونشرها، متحدين بذلك القيود المفروضة ومخاطر العنف الرقمي. لكن هذا الوضع يتطلب تضافر الجهود الدولية للضغط على شركات التواصل الاجتماعي لضمان الحيادية والشفافية في التعامل مع المحتوى، ووقف التمييز ضد المحتوى الفلسطيني. كما يتوجب على المنظمات الحقوقية والحكومات إدانة العنف الرقمي ضد الصحفيين وتوفير الحماية اللازمة لهم، لضمان استمرار تدفق المعلومات من قلب الأحداث. إن حماية المحتوى الفلسطيني والصحفيين الذين ينقلونه ليست مجرد مسألة سياسية، بل هي قضية حقوق إنسان أساسية تتعلق بحق الجميع في معرفة الحقيقة.