
د. امال إدريس، دكتورة في علوم الإعلام والاتصال. وصحفية بوكالة تونس إفريقيا للأنباء (TAP) باحثة مهتمة بقضايا الاتصال الثقافي والاتصال العمومي، لا سيما الاتصال الحكومي في سياقات الانتقال الديمقراطي.
في خضم التحولات السياسية والاجتماعية التي تعيشها تونس، يجد الحق في النفاذ إلى المعلومة نفسه أمام تحديات غير مسبوقة، ليس فقط بسبب تعقيدات البيروقراطية التقليدية، بل أيضًا نتيجة تعطل عمل الهيئات المستقلة المعنية بهذا الحق. فمنذ أشهر، تعيش كل من هيئة النفاذ إلى المعلومة وهيئة حماية المعطيات الشخصية حالة شلل فعلي بسبب غياب تسمية رئيسين جديدين لهما، ما أدّى إلى توقف البتّ في عديد الملفات والشكاوى، وترك المواطنين والصحفيين في مواجهة إدارة غالبًا ما تفضل التحفظ على الشفافية.
هذا الشلل المؤسساتي يأتي في وقت تزداد فيه الحاجة إلى مساءلة الإدارة العمومية وضمان الشفافية، خاصة مع تصاعد الضغط المدني من أجل إتاحة المعلومة الدقيقة في مجالات حيوية تهمّ المواطنين. ورغم أن الدستور التونسي، سواء في نسخة 2014 أو 2022، نصّ صراحة على ضمان الدولة للحق في الإعلام والنفاذ إلى المعلومة، وأكد القانون الأساسي عدد 22 لسنة 2016 هذا الحق عبر إجراءات واضحة وتكريس هيئة مستقلة، إلا أن الممارسة اليومية تُظهر بوضوح وُجود فجوة هيكلية بين النصوص والتطبيق. إذ لا تزال ثقافة التحفظ، والخوف من ارتكاب الخطأ، والممارسات البيروقراطية المتجذرة، تقيّد فعالية الاتصال الحكومي داخل معظم المؤسسات العمومية، وتحوّله إلى نقطة ضعف بدل أن يكون رافعة استراتيجية.
ولا يُختزل التعثّر في تفعيل الإطار القانوني المنظم للاتصال الحكومي في تونس بمجرد غياب الإرادة السياسية، بل يُعزى بشكل أعمق إلى ثقافة إدارية تقليدية ما تزال تنظر إلى المعلومة من زاوية التحكّم لا التمكين، وإلى الاتصال بوصفه إجراءً شكليًا يخضع لمنطق التسلسل العمودي بدل كونه وظيفة استراتيجية قائمة على الشفافية والمساءلة.
فالتعقيدات الهيكلية، من تشابك المسارات الإجرائية إلى غياب تفويض واضح للمكلفين بالإعلام، تؤدي إلى تعطيل فعلي لسير العمل الاتصالي داخل دواليب المؤسسات العمومية، حيث يغيب القرار وتتراكم التأشيرات، ويُقيَّد الاتصال بشبكة من الضوابط البيروقراطية التي تفرغه من أي قدرة على التفاعل أو المبادرة.
وتُعزّز هذه الصورة الميدانية معطيات تقرير صادر عن هيئة دعم الإعلام ضمن مشروع PAMT2 لسنة 2023، والذي أورد أن “نسبة الصحفيين الذين تقدموا بمطالب رسمية لهيئة النفاذ إلى المعلومة لا تتجاوز 2% من إجمالي المطالب[1]“. هذا المعطى يُعبّر عن عزوف شبه تام عن استخدام المسار القانوني، ما يعكس ضعف الثقة في فعالية الإجراءات أو العوائق البيروقراطية التي تجعل كثيرًا من المهنيين يلجؤون إلى مصادر غير رسمية للحصول على المعلومة.
إن هذا الواقع لا يكشف فقط عن ضعف في التطبيق، بل يسلّط الضوء على نمط من الحوكمة يُعلي من شأن التحفّظ الإداري على حساب الحق في النفاذ إلى المعلومة، ويُفرغ النصوص التشريعية من قدرتها على إحداث أثر فعلي داخل المؤسسات.وفي سياق اتصالي سريع الإيقاع، تتحوّل هذه الإعاقات الإدارية إلى اختناق حقيقي، حيث تتأخر المعلومة أو تُحجب أحيانا بالكامل، ويُترك الصحفي أمام خيارات محدودة، غالبها يرتكز على الاجتهاد الشخصي أو اللجوء إلى مصادر غير رسمية. وهي ممارسات لا تُهدّد فقط جودة المحتوى الإعلامي، بل تفتح الباب واسعاً أمام التأويلات والانزلاقات، وتغذّي مناخاً من عدم الثقة، يضر بالشفافية ويُفرغ الحق في المعلومة من معناه الفعلي.
ويزداد عمق المفارقة حين تتبدّد حدود الشراكة المفترضة بين الصحفي والمكلف بالإعلام، لتطفو على السطح علاقة يخيّم عليها الشك وانعدام الثقة. فبدل أن يُنظر إلى الصحفي كفاعل محوري في دورة إنتاج المعلومة العمومية، يُعامل أحيانًا داخل بعض الإدارات كعنصر “مُربك” أو حتى “مُهدِّد”، ينبغي التعامل معه بكثير من الحذر. هذا الانغلاق القائم على الخوف من الوقوع في “الخطأ غير المحسوب”، يدفع المكلف بالإعلام أو الملحق الصحفي إلى اتخاذ موقف دفاعي دائم، يجعله أكثر ميلاً إلى التكتّم والتريّث المفرط، بدل الانفتاح والمبادرة.
ولا يمكن فصل هذا السلوك الاحترازي عن البيئة القانونية والتنظيمية التي تؤطر عمل المكلفين بالإعلام. فهؤلاء مطالبون بالامتثال الصارم لأحكام المنشورات والمذكرات الداخلية التقييدية، التي تضع حواجز مؤسساتية أمام طلبات الصحفيين للحصول على معلومات أو تعليقات من الجهات الإدارية.
ونخصّ بالذكر المنشور عدد 4 لسنة 2017 المتعلق بتنظيم عمل خلايا الإعلام والاتصال، والذي ينصّ صراحة على “الامتناع عن الإدلاء بأي تصريح أو مداخلة وعن نشر أو إفشاء معلومات أو وثائق رسمية عن طريق الصحافة أو غيرها من وسائل الإعلام حول مواضيع تهم وظيفته أو الهيكل العمومي الذي يعمل به بدون الإذن المسبق والصريح من رئيسه المباشر أو رئيس الهيكل الذي ينتمي إليه[2]“.
والأمر نفسه ينطبق على المنشور عدد 19 لسنة 2021 المؤرخ في 10 ديسمبر 2021، والمتعلق بقواعد العمل الاتصالي للحكومة، حيث يفرض تحديد قائمة في المتحدثين الرسميين بكل وزارة وإرسالها إلى مصالح الاتصال برئاسة الحكومة لاعتمادها عند التعامل مع وسائل الإعلام، إلى جانب التنسيق المسبق معها بخصوص الشكل والمضمون في كل ظهور إعلامي.
وقد اعتُبر هذا الإطار التنظيمي بمثابة قيد قانوني مباشر على حرية تداول المعلومات، وانتهاكًا لأحكام الفصل 38 من الدستور، وكذلك الفصل التاسع من المرسوم عدد 115 لسنة 2011، الذي يمنع فرض أي قيود تعوق حرّية تداول المعلومات أو تحول دون تكافؤ الفرص بين مؤسّسات الإعلام في الحصول على المعلومة، أو تعطل حق المواطن في إعلام حر وتعددي وشفاف[3]“.
لقد شكّلت هذه الإكراهات القانونية والتنظيمية اختبارًا فعليًا خلال الأزمات، حيث يتعاظم دور الإعلام في توفير المعلومة الدقيقة. فقد كشفت الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الحادة التي عرفتها تونس في سنة 2023، وما رافقها من نقص مستمر في المواد الأساسية، عن هشاشة قنوات الاتصال الرسمي، حيث وجد الصحفيون أنفسهم في مواجهة جدار من الصمت أو التعتيم، ما حال دون إنارة الرأي العام بشأن تطورات الوضع.
ومن هذا المنطلق، بات من الجلي، خلال السنوات الأخيرة، أن العلاقة بين الإعلاميين ومكاتب الاتصال في عدد من المؤسسات العمومية التونسية تشهد توتّراً بنيوياً وسوء فهم متبادل. فالصحفي يشكو من بطء التفاعل وغموض المعلومة أو حتى غيابها، فيما يشعر المكلف بالإعلام أنه يتحرك داخل منظومة إدارية مغلقة، تُدار بمنطق مركزي فوقي، لا يمنحه أي هامش فعلي للمبادرة أو اتخاذ القرار.
في هذا المناخ الاتصالي المشحون، كثيرًا ما يُنظر إلى المكلف بالإعلام باعتباره مجرد “واجهة بيروقراطية”، مهمّتها تجميل الواقع وتسويق الخطاب الرسمي دون مساءلة. وقد يصل الأمر، في بعض السياقات، إلى حدّ اتهامه بتبييض السياسات أو التستّر على الاخلالات، بينما تكشف المعاينة الدقيقة أنه غالباً ما يكون الحلقة الأضعف، محاصراً بين تعليمات صارمة، ومسارات إدارية معقّدة، وغياب إطار مهني يحمي استقلاليته ويعزّز مسؤوليته.
وتعكس هذه العلاقة المتشنجة القصور المؤسساتي في تحويل الحق في الإعلام من مجرد شعار دستوري إلى ممارسة راسخة في الثقافة البيروقراطية. وتكشف عن خلل في توزيع الأدوار، وفي فهم طبيعة الوظائف الاتصالية، وتُعبّر عن حاجة مُلحّة لإعادة بناء جسور الثقة، لا فقط بين الإدارة والإعلام، بل أيضًا بين الدولة والمجتمع.
ولا يبدو أن الحل يكمن، في الظرف الراهن، في سنّ نصوص قانونية إضافية، بل في تفعيل الآليات القائمة وتجاوز المقاربة الشكلية في التعامل مع الحق في النفاذ إلى المعلومة. فالمعضلة ليست في غياب الإطار القانوني، بل في غياب الإرادة الإدارية والسياسية لتطبيقه بفعالية، وفي تواصل النظرة التقليدية التي تعتبر المعلومة ملكا حصريا للسلطة، وليست حقا عاما يُكرّس المواطنة ويُعزز المساءلة.
ويُعمّق من تعقيد هذا المشهد غياب رؤية وطنية شاملة ومهيكلة للاتصال العمومي، تُؤسّس لتوحيد المعايير، وتحديد الأدوار والمهام بوضوح، وضمان التكوين المستمر لكفاءات هذا المجال. إن غياب هذا الإطار المرجعي يجعل أداء وظيفة الاتصال رهين المبادرات الفردية والاجتهادات الشخصية، بدل أن يكون مستندًا إلى منطق مؤسّساتي قائم على الاستمرارية والمساءلة.
ويكتشف الملاحظ اختلالا بنيويا في وظيفة الاتصال داخل الدولة، حيث تتحول الوسائط الرقمية من أدوات لتقريب الإدارة من المواطن، إلى منصات لتلميع صورة بعض المسؤولين وتكريس ممارسات فردانية، وهو ما يُضعف التنسيق المؤسساتي ويكرّس التشتت الاتصالي.
وفي السياق ذاته، طالبت النقابة الوطنية للصحفيين في تقريرها السنوي لواقع الحريات الصحفية في تونس (3 ماي 2025) بضرورة “تعديل السياسة الاتصالية الخاصة بها في اتجاه الانفتاح على كل وسائل الإعلام.. ووضع آلية للاتصال تعتمد اللامركزية وتضمن التعدد والتنوع بين وسائل الإعلام. وإيقاف العمل بكل المناشير والمذكرات الداخلية (المنشور 4، المنشور 19) التي تضع عوائق غير مشروعة أمام التداول الحر للمعلومات”.
لا يبدو الخلل الاتصالي داخل الإدارة التونسية وليد الصدفة، بل هو نتيجة تراكمات سابقة رسّخت نظرة أداتية للإعلام، اختُزل دوره فيها في ضبط الخطاب السياسي، على حساب مقتضيات الخدمة العمومية ومتطلبات الشفافية. ورغم التحوّلات التي عرفها المشهد السياسي بعد سنة 2011، ما تزال المقاربة الاتصالية، في كثير من الأحيان، محكومة بمنطق “إدارة الأزمة”، أكثر من استنادها إلى رؤية استراتيجية متكاملة. ويتجلّى ذلك بوضوح في طريقة التعامل مع الضغوط الإعلامية أو القضايا الطارئة، حيث تطغى ردود الفعل الظرفية والانفعالية على التواصل المنهجي القائم على الانفتاح والمصداقية.
وفي ضوء هذه السياقات، يتواصل التباين بين الطموح التشريعي الذي يكرّس الحق في الإعلام، والواقع الميداني الذي يتعامل مع هذا الحق بتوجّس. وهو تباين لا يرتبط بالإطار القانوني، بل بغياب ثقافة مؤسساتية ترى في الإعلام شريكًا في تعزيز الشفافية والمساءلة.
في الختام، تبدو الحاجة إلى مراجعة شاملة لمنظومة الاتصال الحكومي مسألة مطروحة بإلحاح متزايد، مراجعة لا تقتصر على الجوانب التنظيمية، بل تشمل أيضًا البُعد الثقافي الذي يحكم العلاقة بين الدولة والمعلومة. فالمسار الإصلاحي في هذا المجال قد يجد مدخله الحقيقي في تعزيز المهنية، وضمان الاستقلالية، وإرساء رؤية وطنية تجعل من الاتصال العمومي أداة دعم للمواطنة، لا مجرّد قناة لنقل التعليمات.
إن التحليل الذي قدمناه في هذا المقال ينبع من رؤية تجمع بين البعد العلمي والتجربة المهنية المباشرة، حيث استندنا إلى ممارسات فعلية في ميدان الاتصال الحكومي، مما أتاح لنا قراءة نقدية واقعية تعكس تعقيدات الواقع وتحدياته.